بعد صدمات نفسية عميقة.. الجنود الإسرائيليون يواجهون آثار الحرب بمفردهم
بعد صدمات نفسية عميقة.. الجنود الإسرائيليون يواجهون آثار الحرب بمفردهم
دمرت الحرب على غزة نفوس الجنود الإسرائيليين، كما دمرت أجساد ضحاياها الفلسطينيين، لكن الجراح النفسية التي تصيب الجنود العائدين من الجبهات تبقى بعيدة عن عدسات الكاميرات ونشرات الأخبار، وبينما تُعرض الدبابات على الشاشات كرموز للقوة، يختبئ خلفها جرح آخر، ينخر في الأرواح بصمت.
وأكدت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن حادثة إطلاق نار مروعة وقعت في مدينة العفولة شمال إسرائيل فجّرت جدلًا واسعًا حول تداعيات الحرب النفسية. استيقظ جندي الاحتياط ألكسندر أوستيوجينين مذعورًا وهو يصرخ "إرهابيون! إرهابيون!" قبل أن يطلق النار من مسدسه الشخصي على جارته ظنًا أنها تشكل تهديدًا.
ووفقًا لمحاميه باروخ غادي، فقد كان موكله في "نوبة هلوسة واضحة"، ناجمة عن اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، إثر خدمته لأكثر من 200 يوم في كتيبة جفعاتي في غزة. وصرخ شقيقه إيفان أمام المحكمة: "عالجوه لا تسجنوه! الدولة دمرته!".
وأوضحت قناة "كان 11" أن نسب الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة بين الجنود ارتفعت بأكثر من 300% منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، فيما تلقت جمعية "نيفيه تسيون" المتخصصة في دعم الجنود المسرحين، أكثر من 4200 طلب مساعدة نفسية منذ بداية الحرب، بزيادة تفوق بثلاثة أضعاف قدرتها الاستيعابية.
وتحدث خبراء نفسيون إلى “جسور بوست”، عن "كارثة صامتة" تهدد بانهيار داخلي في المؤسسة العسكرية.
صدمات نفسية متراكمة
دمرت الحرب التي أعقبت عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، وأدت إلى اجتياح قطاع غزة، أرواح عشرات آلاف المدنيين الفلسطينيين، حيث تجاوز عدد الشهداء 35 ألفًا وفق وزارة الصحة الفلسطينية، لكن شظايا تلك الحرب امتدت إلى داخل إسرائيل، حيث يعيش الجنود العائدون في ظلال من الذنب والرعب، ولا تغادرهم مشاهد الموت والدماء.
ونقلت صحيفة "هآرتس" عن البروفيسور دانييل هيرشفيلد، المتخصص في الطب النفسي العسكري، قوله: "نحن لا نتعامل مع اضطراب نفسي فردي، بل مع وباء نفسي. كل جندي يعود من غزة هو قنبلة موقوتة. الصدمة ليست نهاية الحرب، بل بدايتها الجديدة".
واتهمت منظمات حقوقية الحكومة الإسرائيلية بـ"العمى المؤسسي" في تعاملها مع أزمة الصحة النفسية، وأظهرت صحيفة "معاريف" في تقرير مسرب أن ميزانية الصحة النفسية العسكرية تقلصت بنسبة 17% في عام 2024، مقابل زيادة ميزانية التسليح إلى أكثر من 800 مليون شيكل، في حين خُصص أقل من 120 مليون شيكل لعلاج الجنود نفسيًا.
ورفض كثير من الجنود المسرحين التوجه للعلاج النفسي خشية "وصمة العار". وأكد الجندي المُسرح رون شتاينبرغ لصحيفة "غلوبس" أنه كان ينهار نفسيًا في بيته، لكنه ظل يعد الضعف النفسي "خيانة للرجولة العسكرية".
وكشفت وزارة الأمن الداخلي أن 14 جنديًا مسرّحًا أقدموا على الانتحار منذ أكتوبر 2023 وحتى أبريل 2025، بمعدل انتحار كل 13 يومًا، وهي أعلى نسبة منذ حرب لبنان الثانية، كما ارتفعت حوادث العنف الأسري بين الجنود المسرحين بنسبة 28%.
تجاهل الكنيست حتى الآن عقد أي جلسة طارئة لمناقشة الملف، رغم المطالبات المتكررة من نواب المعارضة وبعض أعضاء الائتلاف، في حين تواصل الصحف المقربة من الحكومة، مثل "إسرائيل اليوم"، التركيز على النجاحات العسكرية وتغض الطرف عن الجحيم الذي يعيشه الجنود في صمت بعد عودتهم.
صدمات صامتة بعد المعركة
قال الدكتور جمال فرويز، الخبير النفسي والأكاديمي، إن تداعيات الحروب النفسية لا تُقاس فقط بما يحدث في أثناء القتال، بل بما يخلفه الصمت بعدها، فغالباً لا تظهر الآثار النفسية كاملة في زمن الحرب، لأن الحدث وقتها جماعي، يتشاركه الجميع، فتتوزع الصدمة على قلوب كثيرة، ولكن، حين يعود المقاتل إلى حياته اليومية، وتخبو أصوات المدافع، تبدأ الحرب الحقيقية في داخله، خصوصاً لدى أولئك الذين لديهم استعداد نفسي مسبق أو تاريخ مرضي نفسي، أو تعرضوا لصدمات خلال المعارك.
وأوضح فرويز، في تصريحات لـ"جسور بوست"، بعض الجنود قد يتحولون إلى قنابل موقوتة، لأنهم ببساطة يظلون عالقين في لحظة الحرب، لا يغادرونها، حتى وإن ابتعدوا عنها جغرافياً، قد يكفي صوت سيارة مسرعة، أو طرقٌ على الباب، أو فرقعة عشوائية، لإعادتهم إلى خنادق الخوف والرعب والدم، وفي تلك اللحظة، يُستثار الجندي في لحظة لاإرادية، وكأنه يعيد تمثيل لحظة الموت، فيرد بعنف لا يستطيع السيطرة عليه. ليس لأنه مجرم، بل لأنه ضحية. ومن هنا، فإن احتمالات لجوئه للضرب، أو حتى القتل، أو إيذاء النفس أو الآخرين، تبقى قائمة ما لم يتم إخضاعه للعلاج النفسي المناسب.
وأكد أن ما يظهر من اضطرابات نفسية الآن هو فقط رأس جبل الجليد، وأن الأعراض الأشد عمقاً وتعقيداً لن تظهر إلا بعد انتهاء المعركة وعودة الجنود إلى واقعهم المختلف، وفي البداية، قد تكون الأعراض خفية: قلق مزمن، اضطرابات في النوم، كوابيس متكررة، ميل للعزلة، اكتئاب، لكن إن تُركت دون تدخل، فقد تتطور إلى ما هو أخطر، مثل الذهان، ومحاولات الانتحار، أو السلوك العدواني.
وأضاف الدكتور فرويز أن تأهيل الجندي نفسياً لا يقل أهمية عن تدريبه البدني، وهو يبدأ حتى قبل دخوله الحرب. "لدينا ما يسمى بالتأهيل المعنوي والتأهيل النفسي. التأهيل المعنوي يشمل الجوانب الحياتية؛ كتوفر الملابس، والطعام، وفترات الراحة، والإجازات، في حين أن التأهيل النفسي يجيب عن سؤال: لماذا أحارب؟ ما معنى مشاركتي في هذه الحرب من منظور ديني، وأسري، واجتماعي؟ كيف أفسر وجودي في هذا المكان؟".
وأشار إلى أن الجندي كلما كان أكثر اقتناعاً بعدالة الحرب التي يخوضها، ارتفع عطاؤه، وتعمقت قدرته على التضحية. أما إن خاض الحرب دون قناعة، فسيعود محملاً بأثقال نفسية مضاعفة، يجترها طويلاً.
وشدّد على أن من يعودون من الحرب لا يمكن معاملتهم كأشخاص عاديين، "هم ليسوا كما كانوا، ولن يكونوا كما نحن، لقد عبروا إلى الضفة الأخرى من الإنسانية، حيث شاهدوا الموت وهو يتنفس، والدم وهو يغسل الوجوه، والخسارات تسرق منهم الأصدقاء والأطراف والأحلام، كيف نطلب منهم أن يعودوا لحياة مدنية طبيعية دون أن نمسك بأيديهم، ونساعدهم على العبور؟".
وأشار إلى أن الدول التي تخوض الحروب، أياً كانت طبيعة النزاع أو مبرراته، يجب أن تضع ضمن خططها الاستراتيجية بُعداً نفسياً واضحاً، فكما تُخصص ميزانيات للذخائر والعتاد، يجب أن تُخصص ميزانيات موازية لعلاج ما تحفره الحرب في الأرواح. فالنصر الحقيقي لا يُقاس بعدد الأهداف التي تم تدميرها، بل بعدد الأرواح التي تم إنقاذها من جحيم ما بعد المعركة.
واختتم الدكتور فرويز تصريحاته، مؤكداً أن الحرب لا تنتهي بإلقاء السلاح، بل تبدأ من جديد في العقول التي لا تنام، وفي القلوب التي ترتجف من صوت الحياة نفسها. هؤلاء العائدون من الجبهات هم أمانة أخلاقية ومجتمعية يجب أن نرعاها، ليس فقط اعترافاً بتضحياتهم، بل وفاءً للإنسانية ذاتها.
الدعم النفسي لمواجهة آثار الحروب
أكدت الباحثة في الشأن العبري، الدكتورة إيمان بخيت، أن الحرب التي يشنها الجيش الإسرائيلي على غزة تترك آثارًا نفسية قاسية على الضحايا الفلسطينيين، ولا سيما الأطفال الذين يتعرضون بشكل يومي لأهوال القصف والدمار، وقد باتت تلك التأثيرات النفسية طاغية في ظل استمرار الهجمات الوحشية والعدوانية التي تهز أركان المدينة، حيث يعاني الأطفال من حالات التوتر والقلق المستمر، كما تظهر عليهم علامات الخوف والانفصال العاطفي عن الواقع بسبب ما يشاهدونه من مآسٍ.
وقالت بخيت، في تصريحات لـ"جسور بوست"، هذه المشاعر تؤدي إلى خلل عميق في صحة الأطفال النفسية، ويمثل ذلك تحديًا كبيرًا، إذ يكون الطفل في أمس الحاجة إلى الدعم النفسي المكثف الذي يساعده على تجاوز تلك الأهوال، إلا أن محاولات تقديم هذا الدعم غالبًا ما تصطدم بعقبات خطِرة تتمثل في نقص الموارد والظروف المعيشية الصعبة التي فرضها الحصار المستمر، ما يزيد من تعقيد الأزمة ويؤدي إلى تفاقم تأثيرات الحرب على مختلف فئات المجتمع الفلسطيني.
وفي السياق ذاته، أكدت أن الإهمال الحكومي في التعامل مع آثار الحرب على الجنود العائدين من ساحات المعركة يعد من بين المشكلات الكبيرة التي تحتاج سبلاً خاصة للتصدي لها، حيث يُظهر التعامل الحكومي في بعض الحالات إهمالًا واضحًا في توفير الرعاية النفسية المناسبة للجنود الذين يتعرضون لصدمات نفسية حادة بسبب مشاهداتهم في أرض المعركة.
وأضافت: يؤدي هذا الإهمال إلى تفاقم مشاعر الاكتئاب والعنف لدى هؤلاء الجنود، ما يزيد من احتمالات الانتحار أو العنف الأسري. وهو ما يعكس فشلًا في توفير الدعم الكافي للجنود على الصعيد النفسي والاجتماعي، الأمر الذي يؤثر ليس فقط في حياتهم الشخصية، بل في المحيطين بهم أيضًا.
وشددت الدكتورة بخيت على ضرورة أن تلعب الحكومات دورًا حيويًا في توفير الدعم النفسي للجنود العائدين من جبهات القتال، مضيفة أن هذا يتطلب إنشاء برامج علاج نفسي متخصصة تستهدف احتياجات الجنود وتساعدهم على التغلب على الصدمات النفسية التي مروا بها، كما يجب تدريب الاختصاصيين النفسيين بشكل احترافي على التعامل مع تلك الحالات التي تتطلب علاجًا وتأهيلًا من نوع خاص.
وتابعت بخيت: "من المهم أن تكون هناك سياسات حكومية واضحة تشمل التوعية بمشكلات الصحة النفسية وتسهيل الوصول إلى خدمات الدعم النفسي، بما في ذلك العلاج الطبي والبرامج التوعوية".
وأكدت الدكتورة بخيت دور المجتمع الدولي في هذه القضية، مشيرة إلى أن الضغط الدولي يمكن أن يلعب دورًا أساسيًا في ضمان تقديم الدعم النفسي للمجتمعات المتضررة من الحروب، يمكن للمجتمع الدولي أن يقدم الدعم المالي والتوعوي للدول التي تعاني من النزاعات المسلحة، ويدفع الحكومات إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتوفير الرعاية النفسية، كما يمكن أن يعزز المجتمع الدولي من دور المنظمات غير الحكومية والمنظمات الإنسانية في تقديم الدعم النفسي للأفراد المتأثرين، فضلًا عن التدريب على مهارات الحياة التي تسهم في إعادة بناء المجتمع.